الصحافة المصرية ليست بخير، وحالها أيام مبارك كان أفضل منه الآن، رغم أن سقف الحرية ارتفع كثيراً وربما أطيح به، لكن سقف المهنية انخفض جداً جداً، تدقيق المعلومات مفتقد، وكثير من الشائعات يجد طريقه إلى النشر كأخبار، وهناك خلط واضح بين المعلومة والخبر من جانب والرأى من جانب آخر، فى زمن مبارك كانت جماعة التوريث تتصيد أى هفوة مهنية للصحفيين، ولذا كان التدقيق فى المعلومة مهماً وضرورياً، شخصياً، خضعت للتحقيق فى يوليو 2005 بمكتب النائب العام إثر بلاغ تقدم به أحدهم وكان مسؤولاً كبيراً لأننى كتبت مقالاً ناقض ما جاء فى عدة خطب لرئيس الجمهورية، واعتبر صاحب البلاغ أن ذلك عيب وكذب ويعد سباً وقذفاً ومسيئاً لمشاعره التى تثق فى كل ما يتفوه به الرئيس..
إلى هذا الحد كان التربص ولذا كان مطلوباً التدقيق الشديد وأن توزن الكلمات بميزان من الذهب، الآن ارتفعت هذه المحاذير، لكن لم يقابلها الاهتمام بالخبر والمعلومة، حيث تمتلئ الأخبار بكلمات مثل «ذكرت مصادر مقربة» ويقوم الخبر من أوله إلى آخره على تلك المصادر المقربة والمطلعة، وحين نخضع ما يقال للمنطق نجده متضارباً، ولا شىء مؤكد فيه.
ارتفاع سقف الحرية قابله عدم تدقيق وقابله أيضاً ما يمكن أن نسميه حالة من الكسل المهنى، وانعكس ذلك على فن «التحقيق الصحفى» الذى أراه يتراجع، تأمل واقعة الشاب القبطى الذى اتهم بأنه وضع رسوماً سيئة لرسول الله على النت، وتناثرت حول الواقعة كمية من المعلومات المتضاربة والمتناقضة، بدءاً من عمر ذلك الشاب، قيل 23 سنة ثم قيل 17 سنة، وقيل أيضاً إن هناك مدرساً له فى المدرسة هو الذى وشى به، وقيل بل إن الرسوم تم وضعها على موقعه لتوريطه وهكذا.. فى كل هذا توقعت أن ينطلق محقق صحفى إلى القرية التى منها هذا الشاب ويلتقيه ويلتقى أسرته ويذهب إلى المدرسة ويلتقى المعلم الذى قيل إن خلافاً وقع بينهما ويقابل الجيران ويعرف ما الذى جرى بالضبط، ويلتقى كذلك المحافظ ورجال الدين المسيحى ورجال المجلس العرفى، فضلاً عن خطباء المساجد الذين حاولوا تهدئة الموقف.. لكن لم يحدث شىء من هذا، وأغلق الملف بلا معلومة واحدة مؤكدة باستثناء وضع الرسم المسىء على الموقع.
واقعة ذلك الشاب وما جرى فى أسيوط ومدرسة منقباد ليست استثناء، تأمل ما جرى فى الانتخابات، فى الدائرة التى بها المرشح عبدالرحيم الغول، أحد الفلول الكبار، والذى ينظر إليه الكثيرون شزراً، فقد تناثر الكلام حوله فى الحادث الطائفى بنجع حمادى سنة 2009، وكثير من المراقبين يتابعون باهتمام ما يمكن أن يجرى فى هذه الدائرة، والأمر يقتضى وجود محقق صحفى هناك يتابع ويرصد ويقدم لنا المعلومات من الداخل.. على ماذا يراهن هذا الرجل وعلى من يعتمد فى معركته هذه.. من يسانده؟!.. من خصومه..؟!
تساؤلات كثيرة وكثيرة، ليست دائرة «الغول» فقط، بل عدة دوائر كانت تستحق المتابعة عن قرب ومن الداخل.. هل هناك من يمكن أن يجيبنا ميدانياً كيف ولماذا لم ينجح المهندس أبوالعلا ماضى؟ يمكن للمحللين أن يتحدثوا كثيراً وأن يقولوا آراء عديدة، لكن ماذا عن المعلومات والوقائع من داخل الدائرة وما جرى فيها؟ الأمر نفسه يمكن أن يقال فى الدائرة التى لم يوفق فيها جورج إسحق، قيل الكثير عن سبب عدم نجاحه، وكلها تحليلات، لكن لم نجد تحقيقاً صحفياً يرصد مباشرة ما جرى هناك ويستمع من أفواه مواطنى بورسعيد إلى شهاداتهم هم لأنهم الطرف الأهم فى هذه الواقعة، هذه فقط مجرد نماذج للكسل المهنى الذى تعيشه الصحافة الآن.
الكسل المهنى صاحبته حالة من الاستسهال، وسامح الله بعض القنوات الفضائية التى اعتمدت على اتصالات بعض الهواة فى المواقع الحية والصور التى يلتقطونها. هؤلاء الهواة أو المتحمسون من عموم المواطنين ينقلون غالباً انطباعاتهم أو مشاهداتهم الجزئية، لكنهم ليسوا محترفين، ومن ثم لا يرصدون أكثر من جانب فى المشهد، ولا يهتمون بتتبع وجهات النظر المتباينة والتى باجتماعها معاً يمكن أن تكتمل الصورة.
حالة الاستسهال تلك، والاعتماد على الهواة دون المحترفين، انتقلت إلى الصحافة، حيث ينقل الكثير من الصحف عن بعض الفضائيات، أى تنقل عن بعض الهواة فى نهاية الأمر، وهؤلاء الهواة فى حالات كثيرة قد ينقلون أخباراً ويتبين عدم صحتها، كما نقلت إحدى الفضائيات خبر احتراق المجمع العلمى المصرى ولم يكن قد احترق ولا اقتربت منه النيران.
قبل 25 يناير كنا نناضل من أجل إعفاء عقوبة السجن فى قضايا النشر وكنا نناضل من أجل صدور قانون لحرية تداول المعلومات، ولم يتحقق أى منهما إلى اليوم، وظهرت قضايا الثورة وأهدافها، فانشغلنا بها عن الطلبين المهمين، وهما فى تصورى فى قلب أهداف الثورة «الحرية»، وأضيف إلى عدم تحققهما حالة الضعف المهنى أو عدم الاهتمام بقواعد مهنة الصحافة، وهذا كله يمكن أن ينفجر فى لحظة ويحدث أزمات حقيقية، وأظنها بدأت..
ترى هل تنتبه نقابة الصحفيين ويتحرك مجلسها، وهذا من صلب اختصاصه، وهل تتحرك أيضاً مراكز الأبحاث والدراسات المعنية بشأن الحريات والمعلومات؟!.
المصري اليوم، أخبار اليوم من مصر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق