من مشاريع الحصار حول الوطن العربى
مشروع التفتيت، أن تتحول الدول العربية إلى فسيفساء طائفى وعرقى حتى تظل
إسرائيل هى الدولة القوية المتماسكة بالرغم من أنها شتات جامع ليهود العالم
شرقاً وغرباً. فقد نهض العرب بمشروع وحدوى هو القومية العربية الذى بلغ
الذروة فى الستينيات فى العهد الناصرى. وتحاول الحركة الإسلامية أن تقوم
بنفس الدور. فلا تناقض بين المشروع القومى العربى والمشروع الإسلامى
الوحدوى. والخشية من تفتيت الدولة القطرية إلى جزيئات طائفية وعرقية كرد
فعل على المشروع القومى العربى أو تخوفاً من الحركة الإسلامية بعد الربيع
العربى الذى تشكل الحركة الإسلامية أحد مكوناته الرئيسية. وإذا كان التفتيت
قد سرى على العراق والسودان ومحتملاً فى لبنان والشام فمصر بها مكونات
طبيعية للوحدة لا يمكن تفتيتها. فالنيل يجرى من الجنوب إلى الشمال، مخترقاً
مصر والسودان، يصعب قطعه. والوادى والدلتا وحدتان للتجميع لا التفريق،
تحيط بهما الصحراء. والصحراء لا تجزئة فيها بل رمال متنقلة على امتداد
الأفق. مصر وجدان واحد يتغنى بنيلها ومائها وواديها وطينها وزرعها وفلاحيها
وكما يسمع فى الأغانى الشعبية ومواويل الفلاحين. بدوها وحضرها يعيشان فى
مكان واحد، شخصية واحدة. ينقسم الوادى طولاً، حيث تجرى المياه، وعرضاً حيث
يزرع الفلاح الضفتين.
لم تعرف مصر على طول تاريخها إلا دولة واحدة
منذ أن وحّد الملك مينا القطرين، الشمال والجنوب. وعاصمتها فى الشمال منف،
وفى الجنوب طيبة. الأولى للعلم، والثانية للفن. قناطرها، سدودها، فروع
نيلها، زراعتها شمالاً وجنوباً، وعمرانها فى الوادى وفى الصحراء. وآلهتها
تعم القطر حيث يعبدها الفلاح. لا فرق بين آمون فى الصحراء وآمون فى الوادى،
فى السماء وفى الأرض. الشمس والنيل لا فرق بين دفء الشمس وخصب النيل.
سكانها وحدة واحدة، أبيض أو أسود، ضخم أو صغير. ديناً واحدًا سواء كان
فرعونياً، يونانياً، رومانياً، مسيحياً أو إسلاميا. كل الديانات تقوم على
التوحيد بصرف النظر عن اسمه وشكله. التوحيد جوهرها حتى المسيحية التى فيها
لاهوت ثلاثى، تغلب آريوس صاحب التوحيد على باقى البطاركة. لم تعش فيها
اليهودية طويلاً دين الشريعة والقانون، فى حين عاشت فيها المسيحية، دين
المحبة والسلام. عاش فيها موسى ويوسف صغيراً وكبيراً. وعاش فيها المسيح
صغيراً. نشأت فيها الرهبنة فى الصحراء الغربية على يد القديس أنطوان. عاشت
فيها الطرق الصوفية. وفيها نشأ كبار الصوفية مثل ابن الفارض. عاش فيها
المسلم والمسيحى، العلمانى والإسلامى، المصرى والعربى والإسلامى. وعاشت
فيها كل الديانات منذ دين مصر القديم واليهودية والمسيحية والدين اليونانى،
والدين الرومانى، والمسيحية والإسلام. تتغير الأديان وجوهرها واحد.
ويتوالى الأنبياء، ورسالتهم واحدة.
على أرضها يعيش المصرى. فهو مصرى بمصريته
ووطنه ومكانه وأرومته. وهو نفس العربى الذى يتحدث العربية. كل من يتحدث
العربية فهو عربى، ليست بأب أو أم إنما العروبة هى اللسان. فهو عربى بلسانه
وهو إسلامى بثقافته. فلا يعنى الإسلام دين الأغلبية فى مقابل المسيحية أو
اليهودية دين الأقلية بل هو خاتم الرسالات ومتمم التوحيد، جوهر الرسالات.
وهو غنى يعيش فوق أرض مصر يتنعم برخائها ونعمها. وهو فقير يعيش فوق أرض
مصر. فهو لا يموت جوعاً، ولا يهرب من فقرها. وقد يرتبط الغنى والفقير يوماً
ببعضهما البعض ارتباطاً عضوياً. يعيشان فوق أرض واحدة. لا يطرد أحدهما
الآخر. فكلاهما ابن الأرض الطيبة. والعالم والأمى، العالم بدرجته العلمية
والأمى بأمثاله العامية، الشيخ بنصوصه الدينية، والمريد بتبعيته التقليدية.
الأول باتجاهه شرقاً، مصدر علمه. والثانى
باتجاهه شرقاً، مصدر منتجاته فى الأسواق من الصين وكوريا الجنوبية
واليابان. والوطنى الذى يبحث عن صناعته الوطنية التى بدأت فى العشرينيات مع
ثورة 1919 أو فى الستينيات مع ثورة 1952 ثم انطفأت أمام الوافد الذى طغى
على الوطنى، موجات بعضها فوق بعض كما يفعل التاريخ، وموجات الصعود والهبوط.
هناك شىء فى القاعدة يربط مصر من أسفل يمنعها من التفتت والاقتلاع. إن مصر
تعصى على التفتيت بطبيعة شخصيتها، وتركيبة شعبها، وتواصل تاريخها. فيها من
الثقل ما يمنع من تقطعها. يقول المؤرخون الله يحفظها، والتاريخ يضمنها،
والمجتمع يحرسها. الوحدة فيها أكثر من الاختلاف، الوحدة لغة وديناً وثقافة
وهوية. لذلك كانت على طول التاريخ ميزان التوازن فى المنطقة. يصعب ابتلاعها
أو اهتزازها أو اختراقها لذلك غناها الشعراء:
أنـا إن قــدر الإله مماتـــــــى
لا ترى الشرق يرفع الرأس بعدى
لذلك أخذت لقب الشقيقة الكبرى. هى أشبه
بالشجرة الباسقة وسط المنطقة. جذعها فى الأرض وفرعها فى السماء. خرجت منها
أسماء القاعدة، قدماها مغروزتان فى السودان، وذراعها اليسرى فى المغرب
العربى، وذراعها اليمنى فى شبه الجزيرة العربية، ورأسها فى الشام، وجسدها
فى وادى النيل. هى السابقة فى العلم والصحافة والثقافة والمؤسسات
الدستورية. من الصعب ابتلاعها أو اختطافها. هى الأولى بالتحرر ثم بتحرر
باقى الأقطار العربية. مركزيتها وسكانها يؤهلانها كى تكون رائدة للأقطار
العربية. وهو ما حدث فى تاريخ مصر الحديث، مصر والجزائر، مصر واليمن، مصر
والسودان.
كل العوامل مجتمعة فى مصر على التجميع،
أرضاً وسكاناً وموقعاً. وكل العوامل فى باقى الأقطار العربية قد تدعو إلى
التفريق، لبنان والعراق والشام واليمن والمغرب العربى والسودان. ومن ثم كل
محاولات التفتيت لا تنجح فى مصر وإن نجحت فى باقى الأقطار العربية.
وفى مصر يفشل مخطط التفتيت الذى يدور فى
الوطن العربى ويتكسر على حوائط مصر. لذلك تظل مصر قاعدة ضد الاستعمار
الجديد الذى يحاول ملء الفراغ فى المنطقة بدلاً من الاستعمار القديم،
استعمار القواعد العسكرية، والعدوان العسكرى المباشر. وكما كانت مصر رائدة
فى التحرر ضد الاستعمار القديم تصبح أيضاً رائدة ضد الاستعمار الجديد سواء
بخطة الشرق الأوسط الجديد أو بخطة التفتيت. الأولى من الخارج، والثانية من
الداخل. وكلاهما يصطدمان بحائط مصر التى قد تعيد تجميع المنطقة من جديد.