الثلاثاء، 27 ديسمبر 2011

لغز تراجع القوى العلمانية العربية .. سامر الياس


مازالت القوى العلمانية العربية من يسارية وقومية وليبرالية حداثية ترزح تحت ثقل النتائج الانتخابية التي جاءت مخيبة لآمالها في انتخابات "المجلس الوطني التأسيسي" التونسي، والبرلمان المغربي، والمرحلتين الأولى والثانية من انتخابات مجلس الشعب المصري. ومع ملاحظة فارق الواقع السياسي والمجتمعي والحزبي، إلا أن ثمة مساحة مشتركة تبعث على التوقع بأن ظاهرة تراجع العلمانيين لن تكون مقتصرة على الأمثلة الثلاثة السابقة، وأنها مرشحة للتكرار –على نحو أو آخر- في بلدان عربية أخرى.

وتبرز في التقييمات الأولية مجموعة متشابكة من العناصر في تفسير الظاهرة، يعود أصلها إلى عقود ماضية، تخللها مخاض بحث المجتمعات العربية عن إعادة تعريف لهويتها وخياراتها بعد تحوِّل النخب الحاكمة إلى دكتاتوريات أفرغت الشعارات الوطنية والقومية من مضمونها وزيفتها، وشوَّهت قيمَّ العلمانية التي تبنتها، وركزت كل أدواتها القمعية على التيارات اليسارية والقومية والحداثية لعزلها عن حركة الشارع، وفبركت واجهات من الأحزاب الشكلية كـ "ديكور" هلامي يضفي شرعية زائفة للدكتاتورية، وهو ما مهَّد تربة صالحة لتنامي التيارات الدينية. ولذلك ليس صحيحاً النظر إلى ظاهرة "مدِّ الأحزاب" ذات الخلفية الدينية كظاهرة ولدت من رحم "ثورات الربيع العربي" كما يحلو للبعض وصفها.

ومن جهة ثانية؛ لا يمكن أيضاً النظر إليها كظاهرة عابرة ستزول بزوال ظروف موضوعية فرضتها، والاتكاء على مقولة "إن تجربة الإسلاميين في الحكم لم تكن مختلفة عن تجارب الأحزاب الأخرى الحاكمة ومثال ذلك السودان والعراق وقطاع غزة"، أو مقولة "إن الأحزاب الإسلامية استفادت من التصويت الاحتجاجي على البنية السياسية والحزبية السابقة، وإجراء الانتخابات في جو من الاحتقان الاجتماعي، والشعاراتية المفرطة". فالمقولة الأولى منقوصة لأن الأحزاب الدينية في السودان والعراق وكذلك حركة (حماس) حافظت على مستويات عالية من النفوذ الشعبي، وإن بفضل إحالات ديماغوجية لإشكالاتها في أغلب الأحيان، والمقولة الثانية اختزالية وسطحية، لأن الإسلاميين أثبتوا حضوراً أكثر من الآخرين على الأرض، وبرهنوا على انضباط قاعدتهم الانتخابية.

إذن من أين يجب أن تبدأ المراجعة النقدية لفهم معضلة الأداء الانتخابي الضعيف للقوى العلمانية؟

أولاً: من غير الجائز إغفال بديهية أن التحوُّل الديمقراطي والتغيير عملية تراكمية لوعي مجتمعي، والمجتمعات العربية حديثة العهد بها، وترسيخها لن يكتمل إلا عبر الممارسة والاكتواء بما يصاحب التجارب من أخطاء.

ولا بد من الإدارك أن معالجة التركة الثقيلة، من ديماغوجيا طالما مارستها الأنظمة الديكتاتورية، وأفسدت فيها الحياة السياسية وولدت الإحباط لدى العامة، بعملية جراحية ضرب من المحال ، فالعلاج يحتاج إلى وقت وآليات معقدة لتصويب ما لحق بالمجتمعات العربية من خلل عميق في وعيها التاريخي جراء عهود من قمع أنظمة الحكم الفاشلة سياسياً واقتصادياً.

ثانياً: منذ حقبة سبعينيات القرن الماضي عانى التيار القومي في البلدان العربية كافة من الانهيار الاقتصادي للشرائح البرجوازية الوسطى والصغيرة التي يعبر عن رؤاها السياسية، وتحمَّل جزءاً هاماً من تبعات فشل المشروع الوطني التنموي في البلدان التي حكمتها نخب باسمه تحت شعارات تنادي بالتحرر السياسي والاقتصادي، وتم تجييرها لصالح برجوازيات جديدة ذات طابع ريعي تعتاش على تزاوجها مع السلطة. ولعل أهم سبب مباشر في المركز المتراجع للأحزاب القومية في الانتخابات يعود إلى علاقتها مع الأنظمة السابقة، ومواقفها منها إبان الحراك الجماهيري، حيث حاولت الوصول مع الأنظمة إلى حلول وسط تعطيه الفرصة في الاستمرار لفترة انتقالية.

وفيما يخص الأحزاب اليسارية، فقد عانت أكثريتها في العقدين الماضيين من اضمحلال دورها لأنها لم تمتلك صفة اليسار الاجتماعي، الذي يبني برامجه على معاينته للأرضية الطبقية التي يفترض أن يمثلها، ولم تستطع التخلص من حالة الجمود الفكري والعقائدي، والأساليب النخبوية في عملها، وافتقار مؤسساتها إلى الديمقراطية الداخلية. فقد نشأت أحزاب ومنظمات التيار الماركسي العربي في سياق سعي الأممية الثالثة لتشكيل أحزاب شيوعية على الصعيد العالمي ومن ضمنها البلدان العربية، أو كفروع للأحزاب الشيوعية في الدول الأوروبية المستعمرة (المغرب العربي)، أو من أحزاب ومنظمات من جذور قومية تبنت الماركسية كرد على هزيمة يونيو/ حزيران 1967 (الساحتين الفلسطينية واللبنانية). ولعب انهيار البرجوازية الوسطى والصغيرة خاصة، دوراً سلبياً عليها، تأتى من كون أن العديد من قيادات هذه الأحزاب وكادرها ذو منشأ برجوازي متوسط أو صغير، وأدت أخطاؤها، في تحليل طبيعة السلطة وتحديد طبيعة التحالف معها، إلى صراعات داخلية وانشقاقات في صفوفها.

ثالثاً: تسبب انهيار الاتحاد السوفييتي إلى حالة من البلبلة الفكرية والإحباط السياسي في أوساط تيار اليسار العربي، مازالت آثارها ماثلة حتى الآن، بما كان يمثله الاتحاد السوفييتي من مرجعية فكرية وسياسية للعديد من أحزاب هذا التيار، وقاد ذلك معظم الأحزاب إلى عملية مراجعة متفاوتة في شمولها وجديتها، لكنها لم ترق على العموم إلى المستوى الأدنى المطلوب لتمكينها من لعب دور فاعل على المستويين الاجتماعي والسياسي.

رابعاً: لم تعط الأحزاب والقوى العلمانية الأهمية المطلوبة لمسألة الأقليات في البلدان العربية وإيجاد حلٍّ ديمقراطي لها، يقوم على الاعتراف بحقوقها القومية على قدم المساواة، والكف عن النظر إلى الأقليات كما لو أن مطالبها المشروعة تمس بسيادة البلد ووحدته الترابية، فإذا استثنينا الحالة السودانية والعراقية نوعاً ما، إن مطالب الأقليات لا تشوبها طموحات انفصالية، وما آلت إليه الأمور في السودان من انفصال الجنوب لم يكن قدراً، بل نتيجة السياسات الفاشلة للحكومات السودانية المتعاقبة منذ الاستقلال.

خامساً: تراجع الاهتمام بقضايا المرأة والشباب، واقتصر الاهتمام بهاتين الشريحتين على منظمات هلامية تتبع قرارات الأحزاب السياسية ويُعين المسؤولون عنها بقرار حزبي ما غيب وجود حياة ديموقراطية داخلية فيها وجعلها محدودة العضوية، وغير قادرة على التوسع في صفوف الشباب والنساء في المجتمعات العربية، كما أن تمثيلها في الهيئات القيادية للحركات والأحزاب الأم ظل محدودا ما أدى إلى حرمان الأحزاب اليسارية من دماء جديدة كان يمكن أن تبعث الحياة في عروقها.

سادساً: افتقرت كيانات التيار العلماني العربي تاريخياً إلى حوار حقيقي فيما بينها عبر قنوات دائمة، وغُيب عن إدراكها أنها جميعها أمام معضلات يعجز أي مكون على حلها منفرداً، وهذا ما بدا واضحا في عجز هذه القوى في صوغ برنامج موحد للفترة العاصفة التي تعيشها المجتمعات العربية، وعدم دخولها في قوائم موحدة للانتخابات أو التنسيق في أضعف تقدير، ولذلك هي معنية بتوحيد جهودها، والاتفاق على خطوط برامج عريضة تشكل مدخلاً لإقامة تحالفات مرنة وفاعلة وتطويرها بما يخدم القضايا الجوهرية المشتركة ليضمن لها الاستمرار في مرحلة الحرية التي انتزعها بعض الشعوب والتي سوف تتكل بالنجاح في بلدان الحراك الأخرى.

وأخيراً؛ فإن على التيار العلماني العربي بكل مكوناته المباشرة في مراجعة لأسباب عجزه إقناع جمهور الناخبين بخطابه السياسي والأيديولوجي، رغم المجال الواسع من الحرية الذي انتزعه الحراك الشعبي.

سامر الياس "روسيا اليوم"

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق