كان ذلك قبل عبور أكتوبر 1973 بفترة.. وضع أحمد رفعت مدافع الزمالك كل غضبه فى كرة ثابتة من منتصف الملعب تقريبا وسدد صاروخا استقر فى سقف شبكة فؤاد بخيت حارس مرمى فريق غزل المحلة المخيف فى ذلك الوقت.
كنت فى عامى الثامن وكان هو زمالكاويا عتيدا، جلست أشاهد معه المباراة على تليفزيون «نصر» أبيض وأسود بالطبع، قبل أن يجهز حقيبته ويعود إلى الجبهة.
كان الشهيد محمد وحيد قنديل ضابطا صغيرا فى سلاح الطيران فى ذلك الوقت، وأذكر أنى طلبت منه أن يشترى لى كرة مثل تلك التى مزق بها أحمد رفعت الشبكة فوعدنى أن يحضرها معه عندما «ينزل» الإجازة القادمة.
الذهاب إلى الجيش ارتبط فى ذهنى منذ ذلك الوقت بالصعود، والعودة منه تعنى «النزول».. سافر «وحيد» وتبعه شقيقى «قنديل» ضابط الحربية الشاب أيضا وبدأت المعركة، وجلست أنتظر «كرة أحمد رفعت» التى كانت ولا تزال فى مخيلتى أجمل وأقوى من كرة برشلونة، والانتصار.
فى الأيام الأولى من الحرب جاء خبر استشهاد «وحيد» وانقطعت أخبار «قنديل» لأسابيع كانت أمى خلالها منقسمة إلى اثنين، قسم يحتضن خالتى الثكلى ــ الأصغر منها ــ رحمهما الله، والثانى ينفطر قلقا وانتظارا على الابن الأكبر الذى سافر للحرب ولم يعد.
وذات فجر بارد أفقنا على صرخة أمى تحتضن «قنديلها» العائد من الجبهة.. أتذكر جيدا أنها طلبت منى مساعدته فى تطهير جروح استطالت فى ظهره مثل شقوق محفورة بسكين، لا تزال غائرة فى ذاكرتى حتى الآن، وبعد ساعات من نومه تناول معنا الغداء وهو يقص علينا طرفا من ملحمة النصر.. وقال لنا إنه استأذن فى هذه الساعات لطمأنة أهله، حيث كان مكلفا بتسليم جثمان شهيد إلى أهله فى إحدى قرى الصعيد.. ثم ارتدى زيه العسكرى وعاد إلى جبهة القتال فى سيناء.
تلك هى صورة العسكرية المصرية فى ذهنى، وأزعم أنها كذلك فى وجدان المصريين، فالجندية مجالها القمم العالية، وليس السفوح المنخفضة، مكانها البراح وليس الأزقة والحوارى الضيقة، ومن هنا كانت فترة التشظى النفسى والحزن العميق هى تلك الفترة التى أنزلوا فيها الجيش إلى قاع مستنقعات السياسة بعد الثورة، الأمر الذى أوجع الجميع، وخدش تلك الصورة النقية عن «الجند».
وفى عيد تحرير سيناء ليس أقل من يعمل الجميع على إبعاد المؤسسة العسكرية عن أوحال الصراع السياسى بين شركاء ثورة يتقاتلون على كعكة سلطة، فقد خلق الجيش للدفاع عن الدولة المصرية، والذود عن الحدود، وليس تأمين «الزنود».
إن الإصرار على العودة إلى لعبة «التوكيلات» وتفاهة التحريضات بين المؤسسة العسكرية ورئيس الدولة يكشف عن رغبات مستعرة فى اللهو السياسى والعربدة القبائلية تهيمن على مجموعة من الفشلة والمفلسين.. فالجيش الذى سطر بطولات فى الدفاع عن الأرض لا يمكن أن يتورط أبدا فى ألاعيب لصوص الأرض وقطاع الطرق فى السياسة المصرية.
تحية لجند مصر وصباح الخير يا سينا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق