عبر تاريخ الثورات يتكرر مشهد إنساني مخيف، حيث يصنع الثورة الحكماء ويشعل فتيلها الحالمون ويدفع ثمنها الشهداء ويتمتع بخيراتها الجبناء. عندما ننظر إلى ثورتنا التي لم تكتمل سطورها بعد، نجد ظاهرة لم تعرفها أي ثورات في العالم،
وهي وجود الصنف الخامس من البشر. هذا الصنف نطلق عليه مجازا حزب الكنبة أو الأغلبية الصامتة، التي استطاعت أنظمة الحكم الاستبدادي عبر الزمن تجيشه، لخدمة النظام أيا ما كان الشخص الذي يديره. فهم فئة تحب العيش بعيدا عن المشاكل والسياسة، أملا في الحفاظ على لقمة العيش، ولو كانت " مغموسة " بالطين وتأتي بالذل والهوان. تتواجد هذه الفئة في كثير من الدول، في العشوائيات وعلى حواف المدن الكبرى، وهي نتاج ما بين المجتمعات الفقيرة، والمهاجرين، التي تشكل فيما بينها مجتمعات غريبة السلوك وخطيرة الأثر. وتبرز من هذه الفئة عادة شخصيات نابغة تتجه بقوة لتغيير واقعها، إما عبر التفوق الدراسي أو الدخول في عصابات الجريمة المتنوعة لتحكم المجتمع الذي تعيش فيه بسلطة خارج الدولة.
عندما تسببت هذه الفئة في اشعال حرائق حول العاصمة باريس منذ عدة سنوات أطلق عليها الرئيس السابق ساركوزي لفظ " الأوباش" بما جعله يقع في صراع دائم، أنزله عن عرشه الشهر الماضي. الوضع عندما مختلف، فهذ اللفظ إذا ما أطلقناه على حزب الكنبة، فيعنى أن 50% من القوة التصويتية في الدولة، تقع في يد الأوباش، ولكن نستطيع أن نقول أن هذا الحزب أقوى من أي حزب أو جماعة سياسية أخرى. لذا يراهن الجميع على كسب وده بشتى الطرق، لأن الحد الفاصل بين مرشحي الرئاسة الآن. ويعرف قادة النظام البائد مفاتيح هذا الحزب القوى، حيث تعلموا كيف يحركونه في طوابير طويلة، نحو صناديق الانتخابات عبر فلول النظام وأجهزة الأمن، وسياسية الترغيب والترهيب التي تأتي بثمار هائلة مع هذه النوعية من البشر. فجهل هؤلاء بحقائق ما يدور حولهم، والدسائس التي تكيد بدولتهم يجعل أهل السلطة المحرك الأساسي لهم بالحبال الرفيعة، مثل عرائس " المارونوت" والأراجوزات، وتجد الفرد منهم سعيدا بما يفعل وهو لا يدري أن ما يبلعه بيده سم قاتل. ويعرف العالمون بإدارة الدولة، أن ارتباط مصالح هؤلاء بدولاب العمل اليومي في الأجهزة الحكومية يجعلهم يقررون مصير البلد، من أجل مصالح شخصية ضيقة مثل الغاء غرامات الأرز والبناء على أرض زراعية أو تأجيل دفع أقساط البنوك الزراعية، وتصل التفاهة لحد تناول وجبة مجانية مقابل التصويت لمن تحدده السلطة الرسمية.
عندما أطلق ساركوزي على هذه الفئة لفظ " الأوباش" بما يعني الغوغاء ، لم يقصد بها أهانة البشر، بقدر وصفه للسلوك الذي ارتكبوه ضد الدولة الفرنسية حيث نظموا حرائق التهمت مئات البيوت والسيارات حول العاصمة باريس الأمر الذي هدد أمنها وعرض الدولة للخطر. ولم يسكت ساركوزي على فعل الأوباش إلا بعد أن حصل على قانون من البرلمان، يحرم هذه النوعية من التصويت في انتخابات المجالس البلدية وهو أمر لم يلق معارضة من خصومه حتى ألد أعدائه والفائز الاشتراكي حاليا بمنصب الرئيس فرانسوا هولاند. الفرنسيون يعلمون أن خطر العشوائيات انتقل إلى فكر سكانها، مع ذلك لم تتهم فرنسا بأنها دولة رجعية أو متطرفة، حتى المانيا التي تضيق على المقيمين بداخلها منذ عقود، وتحاول طردهم إلى بلدانهم الآن لم يسمها أحدا بالدولة النازية.
على نفس النهج سارت العديد من الدول، فقد أصبح التصويت الانتخابي حق لم يملك قوت يومه وسلطة قراره. وحدث أن سألت القادة الصينيين وآخرهم نائب عمدة مدينة شانغهاي الحالي؛ لماذا أخذت الصين بالرأسمالية الغربية للنهوض بالحياة الاقتصادية وترفض تطبيق الديمقراطية على النهج الأوربي أو الأمريكي؟. رد الرجل بنفس الكلمات التي سمعتها في بكين من تشاي جون نائب وزير الخارجية وشياو دونغ مدير إدارة غرب آسيا وشمال أفريقيا بالخارجية الصينية، بأن دخول الرأسمالية في بلد اشتراكي كان بهدف تشجيع الناس على العمل والانتاج والتميز والتفوق وتحصيل لقمة العيش بكرامة، ومواجهة المجاعات التي حلت على البلاد لفترات طويلة هددت استقرار الدولة ووحدة المجتمع. ويفخر كل من أتحدث معهم من المسئولين الصينيين أنهم أفلحوا في صناعة رأسمالية ذات صبغة صينية حافظت على أعلى معدلات للتنمية الاقتصادية في العالم طوال العشرين سنة الماضية، وحققت استقرارا اجتماعيا وسياسيا للبلاد، أنقذتها من أزمات مالية شهدتها الدول الكبري. ويقول الصينينون بحسم: إذا كان الهدف من الديمقراطية أن يحكم الشعب نفسه بنفسه، فعلى الحكومات أن توفر لهؤلاء الناخبين أولا لقمة العيش التي تغنيه عن بيع صوته، وفرصة العمل التي تحافظ على كرامته، والبيت الذي يأويه فلا يطلب الحماية من أحد. وسألني نائب وزير الخارجية عندما كررت له أسئلة عن الديمقراطية: تصور لو أن الأسر الفقيرة التى تعد بمئات الملايين في الصين انشغلت الآن بالانتخابات على الطريقة الغربية، فمن يتحكم في أصواتها مستطردا، بالتأكيد من يدفع لهم المأكل ورجال الأعمال الذين يتحكمون في معيشتهم، ولو كانت كلمتهم ضد الدولة والقانون ومصلحتهم الشخصية!!.
كلمات الرجل ذكرتني بما تركته خلفي في مصر، حيث ثرنا في الميادين مطالبين خبر .. حرية .. عدالة اجتماعية، ولم نحصل على أية مطلب منهم وأغلبها يفرش الأرض استعدادا لقدوم الرئيس القادم، ابن النظام البائد، عبر صناديق الاقتراع التي تعتمد على توجيه أذرع الحزب الوطني المنحل وأجهزة الأمن المختلفة لحزب الكنبة الكبير نحو إعادة انتاج كافة وسائل النظام السابق وتكليفهم بإدارة الدولة من جديد!. فالإعلام المنبطح ظهر دوره جليا في المعركة والرموز السوداء عادت نيرانها في الشوراع والحواري، بل والمساجد والكنائس. استغل هؤلاء خوف المواطن على لقمة العيش" المعفرة بالتراب" في ارهابه وتوجيه نحو المستقبل الذي يرسمونه لأنفسهم وليس مستقبله ولا مستقبل البلاد. فهم يعلمون أن حزب الكنبة لا يفهم معنى الثورة ولا الكلمات الثائرة المنادية بالخبز والحرية والعدالة الاجتماعية،وكل ما يهمه أموره اليومية الضيقة. الغريب أن حزب الكنبة يلتقى مع مجتمعات الأوباش في أوربا والمدن الكبرى في كونه منتج للنوعين العبقريين من البشر، فمنه يخرج الثوار العلماء الأفذاذ وهم قلة، وكثيرا ما يفرز الجهلة والمارقين وفي الحالتين يتحمل الصدام الذي يجرى بين السلطة والمجتمع. فالعشوائيات التي يتخندق فيها لم تعد من صناعته بل بفعل الأنظمة التي لا تخطط مدنا ولا مستقبلا لأية فئة في البلاد، بما يهدر انسانيته وعدم قدرته على تحمل مسئوليته عن صوته. فعندما قررت فرنسا سحب تصويت الأوباش كانت تعلم أن صوت هؤلاء غير متزن، مع ذلك اهتمت بتطوير المناطق التي رأت خطورتها على أمن الدولة. وعندما تمنع الصين الانتخابات على الطريقة الغربية، وتكتفي بأن يتم اختيار رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان والحكومة، لفترتين فقط من قبل نواب الشعب في الأقاليم والمجالس النيابية، فهي تحول ـ ولو إلى حين ـ دون فوضى في الاختيارات في شعب يسكنه خمس البشر في الكرة الأرضية. فهل نترك أمرنا لمن يتحكم في صوت حزب الكنبة ليزيد مج تمع الأوباش، هذا أعظم خيار نخشاه لمصر؟!
Adelsabry33@yahoo.com
اقرأ المقال الأصلي علي بوابة الوفد الاليكترونية الوفد - الوفد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق