مهدى مصطفى - عصر جمال عبد الناصر موصوف باستراحة تحرير من الاستعمار، قبل هذا العصر الناصرى كان الإنجليز والفرنسيون يتقاسمون البقعة العربية من جبال تطوان المغربية إلى نخيل البصرة العراقية، وبينهم تقف بضع مستعمرات برتغالية وإيطالية وإسبانية، وبموت عبد الناصر تلاشى العصر والرجال والفكر، صحونا من الحلم، بعضهم وصفه بالكابوس الديكتاتورى، مرة لأن ناصر بكباشى أحمر فى شعارات الإخوان المسلمين، ومرة لأنه كولونيل أمريكى حسب وصف آل جوزيف ستالين إمبراطور السوفيت المنتصر فى الحرب العالمية.
كان جمال حمدان وحده يقول إن مصر ناصرية قبل ميلاد عبد الناصر بآلاف السنين، ناصرية جمال حمدان تعنى العدالة الاجتماعية والحرية والكرامة والتحرر الوطنى، ومنع أى قوة من احتكار جريان نهر النيل، فمصر شارع طويل ينتهى فى القاهرة، وميدان واسع يسمونه الدلتا، وفى الشارع الطويل والدلتا الواسعة تتماسك مصر حول هذا النيل، وهذا التماسك لا يجوز لأحد أن يخترق جدرانه الصلبة، وكل من حاول سقط فى هوة التاريخ.
الغزاة يغريهم فراغ الصحراء .يزحفون من الشرق والغرب، سهولة الطريق تزين لهم رايات النصر، يتعجلون الإعلان عن ملكيتهم للبلاد والعباد، يتصرفون كأصحاب مكان، أحيانا يحيرهم صمت المصريين، يقررون التغلغل فيما بينهم، فجأة تخرج المقاومة من كل فج عميق، تجبرهم على إعلان الهزيمة، يحيرهم هذا الشعب المصهور تحت لفح الشمس ورياح الخماسين. فى الطريق إلى بلادهم مجللين بالهزيمة، يفكرون فى العودة مرة أخرى بأسلحة، وخطط أكثر قوة للفتك بشعب يبدو عصيا، يعاودون الكرة بعد الكرة، لكنهم يواجهون نفس المصير، وآخر ضربة تلقوها كانت خروجهم على أيدى عبد الناصر عام،1954 ولم يخرجوا من مصر وحدها، بل خرجوا من شتى بقاع العالم وغربت شمس الإمبراطوريات من السويس حتى الهند وأمريكا اللاتينية، ولم ينسوا ذلك قط، فعادوا بطريقة مبتكرة، صحيح أن أجدادهم كانوا يأتون من الجزر البريطانية وأرض الغال الفرنسية وأراضى الآريين الألمانية، لكنهم هذه المرة غيروا الجغرافيا وجاءوا من وراء المحيط الأطلسى من قارة الهنود الحمر السابقة، قارة اليانكى الأمريكى.
رجال اليانكى الأمريكى مرفهون فى القتل، لم يخوضوا حربا متكافئة مع عدو، الهنود الحمر كانوا مسلحين بأسلحة بدائية أقواس ورماح فى مواجهة رصاص مصبوب، والهندى الأحمر كان يرى الجحيم فى فوهة البندقية والمسدس حتى لو لم يكونا محشوين بالرصاص. فى الحربين الأوروبيتين، الأولى والثانية، خاض الأمريكيون الحرب بعد تعب المتقاتلين، حصدوا النصر مجانا، لم ينتصروا وجها لوجه، ففى اليابان جربوا السلاح الذرى المسروق من علماء ألمانيا النازية، وأعلنوا النصر المظفر، فى حرب وحيدة هى فيتنام تلقوا هزيمة مدوية، هزمتهم فلاحة كانت تجمع الأرز، سألها برتراند راسل، فيلسوف السخرية حين رآها تشمر عن ساعديها وساقيها وتخوض فى حقل الأرز بمياهه العميقة وطائرات أمريكا تحوم فوق رأسها :ماذا تفعلين تحت هذا الرعب السماوى؟ ردت بثقة المنتصر: أزرع الأرز لأقاوم العدو. خرج الأمريكان انتصر هوشى منّه، القائد الفيتنامى التاريخى، السينما الأمريكية سجلت عبر أفلامها محنة الجنود الأمريكيين وهم يقعون أسرى وجرحى وقتلى فى مستنقعات فيتنام، وبعد هذه الواقعة قررت عصابات واشنطن أن تخوض الحرب بطريقة مختلفة، فى تحالف كما جرى فى حروب الخليج ضد العراق وصولا إلى احتلاله، أو صناعة انقلابات عسكرية، شيلى على سبيل المثال، أو ثورات ملونة كما جرى فى الحرب الباردة ضد أوروبا الشرقية والاتحاد السوفيتى، وأخيرا فى المنطقة العربية بمساعدة خلاياها النائمة. خميرة خلاياها النائمة عتيقة، وقادرة على التكاثر كالفطر السام، نامت طويلا حتى اخترقت أعمق أعماق الناس ، من القمة إلى القاع، حين قررت الغزو كان الأمر سهلا، إشعال غضب شعبي بتهم كالفساد ونقص الحرية، وعدم العدالة.. وهى تهم حقيقية يستحق مرتكبوها العقاب، وساعتها يكون الغزو الناعم مبررا لشعب كان عصيا عنيدا، وإذا حصلوا على كلمة السر فيه حازوا مفتاح العالم.. فهل أصبح مفتاح مصر بأيديهم؟ وهل ناصرية جمال حمدان الفلسفية كانت خيالا أم أن جراب المصرى لا يخلو من مفاجآت مدهشة؟
بوابة الأهرام العربى- مقالات - هل مصر محتلة؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق