شخص يزيد عمره عن عمر الشباب قليلا، وتقل بشرته عن السمرة قليلا، يظهر من نظراته التمكن والتي في واقع الحال، لم أستطع متابعتها أبدا، ربما وهو لاهٍ عني ولكن ليس مباشرة أبدا، وأناقته المتوقدة التي تليق بشخصه الجذاب، ليس ذلك الجمال الذي يطيح بالقمر، ولكن تلك الجاذبية التي تخطف الأنفاس، والملامح التي تعبر عن سنٍّ صغير، والابتسامة الساحرة التي تستدعي الدعاء له بالسعادة، الطول الذي يملكه يوحي بطول أعلى أو هيبة أكبر، وسمو. ليس لأنه وصل لدرجة الرقي تلك ولكن لسبب غامض لا أدريه. ولسبب غامض وقبل أن أفكر أيضا؛ لا أستطيع التركيز في حضوره، ولسبب غامض أتشتت فور تماس في النظرات، لسبب كذلك أضع عيني جانبا إلى أن ينهي كلامه أو يشيح بوجهه عني، إلى أن تهدأ نفسي، وأشعر بنسمة الهواء التي افتقدتها دهرا، ياله من شخص يستنزف كل طاقات المشاعر والمسارات العصبية، نبضات القلب، وومضات الدماغ !!
لا أدري ماذا يعتريني، ولكنه فعلا شعور مزعج، آخر ما أريده أن يظن شخص بعمر والدي ولديه أولاد بعمري بأنني ملقية بنفسي عليه. لا أستطيع منع نفسي من مراقبة حركاته وسكناته والتفافاته، وحتى ابتساماته، أخشى للحظة ان يجد صورته معكوسة في عيني اللامعتين، فأصبح في عينه لوحة سوداء قاتمة.
شعور مزعج أن أحتاج إلى غريب ، لمعرفتي بنقص في حياتي، من الصعب أن أسيطر على إحساس لم يخرج إلا الآن وأروض مشاعر لم أعرفها أبدا، ولم تستقر في قلبي إلى الآن، من الصعب جدا أن لا يكون هناك رجال في حياتي وهم كثرة، وأتمنى الغرباء من مظاهر أحسستها، أو سلوكيات لمحتها.
ولكنه حقا أخّاذ، أحس بالضياع حقا عندما أشعر بأنني أراقب تفاصيل هذا الرجل الغريب وأتخيل لدقائق أنه أصبح قريبا مني كفرد عائلة، أتذكر شكل مشيته، وحركة وقوفه، ولون يديه الذي يختلف عن وجهه المليح بدرجتين، ترتيب أسنانه، ونبرات صوته المتباينة، المتفرقة ثم المجتمعة، والخاتم الجميل ذو الحجر القرميدي في بنصره الأيمن ، أتذكر حتى أزرار أكمامه المميزة، وتفاصيل إن عددتها قد أستغرق يوما.
ثم أحاول تذكر شخص كان السبب في وجودي، فلا أذكر شيئا عن أبي سوى رائحة الدخان، وثقوبا صغيرة في ملابسه تحكي عن رماد حار اخترقها، وعينيه التي تؤكد لا مبالاته، كلامه وسلوكه المتناقضين، يقولان أنا معكم ولست كذلك، بجانبكم وبعيد، أحبكم ولكن ..، وعوامل مشتركة أقارنها وأقاربها، لست أقول بأنني أريد أن أحب أبي كما أحب سموَّ ذاك الوسيم، لكن انعدام وجود أبي مع وجوده يصهر حلقة في داخلي من حديد صدئ، ويجعلها هرئة تحتاج إلى ترميم من أي شخص كان، بدون معرفة المصدر من أين أتى.
لا أظن أنني سأستميل لذلك الضعف لو أن بطلي كان أبي، لو أنه كان قلبي الكبير، الأب مسؤول في حياة أي فتاة عن موازنة مشاعرها في صباها، وتقييم عواطفها، مساعدتها على السيطرة على أنفاسها الشاعرية ، وأحاسيسها الغنية، تحتاج أبيها ككيان معنوي ايجابي عميق تلجأ إليه وقت شدتها، وليس كمخلوق حي، ميت بنظرها، لا يقوم سوى بوظائفه الأساسية في الحياة، توفره يجعلها لا تحتاج لأحد آخر، وترى الدنيا من خلاله.
هذه الفتاة تعد بأنها ستعرف من يجب أن توجه إليه سيل عواطفها، بأنها ستملك شتات نفسها، ولن تأخذها الريح كما تأخذ الغيوم، رغم انها لم تؤخذ بعد، بل لا زالت تصارع بأن لا يتحرك قلبها بأي هزة خفيفة كانت. هي لا ترغب بأن يثنيها شيء عن تحقيق أهدافها، تريد شخصا بجانبها، تريد أبا، تعد حتى ولو لم تحصل عليه، ولكنها لا تستطيع بسهولة الإيفاء بدونه.
آه يا أبي، لو تعلم. ذاك الرجل يجعلني لا أرغب بمقابلته الا وأنا في ابهى حلتي، يجعلني أريد أن أتحلى بكل أنواع الخصائص السامية لأرقى بمستواه، وأثير اعجابه، ربما أتمنى الاختفاء لمجرد تصرف خاطئ قمت به في حضرته، يجعلني أرغب باحتياجي له، بضمه لي، والشعور بحنانه وعطفه علي، أحتاج لمن يربت على كتفي أو يمسح على رأسي كيتيمة وفعلا، من يتّمني هو أنت في حياتك، أحتاج لأبكي بين ذراعيه وأخرج كل ما بي من صروف الزمان، أما أنت فقد جعلتني أتمنى أن أبدلك به.
وكأن ثوبه قد كوي وهو عليه، يرتدي الأثواب ليجملها ويمنحها رونقا، فأي كرم هذا! يأتي كل يوم بلون مختلف، وكأن أسبوع باريس قد وضع على إثره. الأبيض يبث فيه نورا وإشراقا عاليين، والبني يزيد من حمرة وجنتيه عندما يضحك، أو يتنهد لشيء ضايقه، نعم أنا أتكلم عن رجل ولكنه فريد كما ذكرت، لهذا فهو غريب عن الباقين.
بحر عينيه الذي يروي حنكة التصرف، وخفة دمه التي تقاس بميزان الريش، نكاته التي يلقيها مبعثرة منظمة، تشبه التي يلقيها أبي، وكم أذكر حبه للشاي تماما مثل أبي. وما أجمل الدرر التي تخرج من ثنايا اللآلئ!، ليست فقط صيغة الحديث، بل مضمونه الغزير، ومحتواه الملم، ومخزونه الغني، الذي قد يكون احتياطا للثقافة في يوم ما. والشيب الذي نبت لتوه ليزيد من وقاره، لا أدري متى يشيب، هو يقول "احنا شيبنا خلاص" ولكن من يخدع بقوله هذا، لو أنه قد شاب فعلا لما كنت تهولت من روعته أول مرة أراه بها، وكأنني أرى شيئا من العالم الخارجي.
تارة يدخل المجلس كملك ليغمره من هيبته ويفرض احترامه في الأنحاء، وتارة يدخل كشاب مثل البقية فلا نلمح وجوده الا بابتسامته الجميلة، وقبل دخوله بقليل تستعد لجنة لاستقباله بالنظرات الهائمة، تختص فقط بمتابعته ومراقبة تحركاته، ولو أن بمقدورها فعل شيء لما تركت خدشا يصيبه، ودائما ما تتكلم عن حظ أهله به.
أبي!
بماذا يختلف هو عنك؟ أنت تشبهه، لكن ما تعطيه من اهتمام موجه، وحنان غامر لم يكن لي أبدا .آه يا أبي لماذا تركتني أغوص في تلك العوالم، لماذا لم تمنع قلبي من النبض في الاتجاه الخاطئ؟
لماذا تريدني أن أبحث عن غيرك؟ وأن لا أعجب سوى بأشخاص يشبهونك ؟! هل يستحق ذلك الشيخ الشاب كل ما قلته عنه، هل تستحق مشاعري أن تضيع هباءَ هكذا ؟! هل تستحق ابنتك كل هذا؟!
كم أشتاق لك يا أبي وأحن لوجودك، ذاك الوسيم وأشخاص غيره يأتون ويذهبون كفصول السنة، و حنيني إلى أبي ، إليك أبي يبقى باقيا ما بقيت.
ابنتك
fadhaa2@gmail.com
http://www.alwatannews.net/colums.aspx?id=8bMw6SJ4PfX1O7+tiUcK+g==
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق