فيصل القاسم
ليس هناك أدنى شك بأن الطواغيت العرب الساقطين والمتساقطين لم يتركوا موبقة أو جريمة أو رذيلة إلا وارتكبوها بحق شعوبهم. ولا يتسع المجال هنا لذكر كل المظالم التي أنزلتها أنظمتهم الديكتاتورية الشمولية الحقيرة بحق الناس على مدى عقود طويلة ومؤلمة من الزمان. ولا شك أيضاً أن الشعوب بحاجة لأن تكون بحلم ابن الأحنف كي تسامح جلاديها،وهو أمر مستحيل طبعاً،خاصة وأن أولئك الطغاة لم يتركوا للصلح مطرحاً. لكن هذا لا يعني أن نرد على هؤلاء الطواغيت وأزلامهم المجرمين السفهاء بنفس طريقتهم البائسة والوحشية. ولنتذكر أن المهاتما العظيم غاندي قال يوماً:إذا طبقنا شريعة حمورابي:العين بالعين،فإن ذلك "يجعل العالم بأكمله أعمى". لهذا يترتب على الشعوب ونخبها الجديدة أن تتمسك بأقصى درجات الحكمة والصبر وكظم الغيظ كي تؤمن انتقالاً سلمياً صحيحاً لمجتمعاتنا التي بدأت تخرج رويداً رويداً من تحت ربقة الطغيان والاستبداد إلى مرحلة الديموقراطية أو على الأقل التحرر الإنساني. ولا ننس القول العظيم: " والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين".
وكي لا نبقى في الافلاطونيات، لا بد أن نتعلم من التجارب القريبة جداً. وأقصد بذلك تجربة العراق التي ما زال يدفع العراقيون ثمنها من دمهم ولحمهم الحي منذ سقوط نظام صدام حسين عام ألفين وثلاثة. فبدلاً من تضميد جراحات الماضي ولملمتها، راح الذين عادوا إلى العراق على ظهور الدبابات الغربية الغازية، راحوا ينتقمون شر انتقام من النظام السابق دون تفريق بين من عمل مع النظام من أجل مصالحه الدنيئة ومن كان مضطراً للعمل معه خوفاً على رقابه ورقاب أهله وعياله. لا أريد هنا أن أترحم على حزب البعث البائد في العراق، فهو لا يستحق سوى اللعنات، لكن هذا لا يعني أن نجتث كل من كان منتسباً إليه بغض النظر عن الأسباب والظروف التي أملت عليه الانتساب. كيف يزعم حكام العراق الجدد مثلاً أنهم جاءوا لبناء الديمقراطية، بينما عمدوا في الآن ذاته إلى التصرف مع خصومهم القدامى بنفس الطريقة التي كان يتصرف فيها النظام السابق مع خصومه؟ فإذا كان النظام السابق لا يعرف سوى لغة الإقصاء والتصفية لكل من كان يعاديه، فلماذا يسير النظام الجديد على خطاه؟ ألم تسهم سياسات النظام الجديد الذي صدع رؤوسنا بالحديث عن الديمقراطية والليبرالية بتعميق أزمات العراق السياسية والاجتماعية؟ ألا تقبع البلاد على صفيح ساخن بعد انسحاب القوات الأميركية سياسياً وطائفياً وعرقياً لأن النظام الجديد لم يعمل على مداواة الجراح، بل زاد في تفاقمها بسياساته الانتقامية البائسة؟
وكما حدث في العراق، يبدو أن بعض الإخوة الليبيين راحوا يصفون ثاراتهم مع بقايا النظام القديم بطريقة لا تبشر بخير، مما يسيء كثيراً لأدبيات الثورة، لا بل يهدد أيضاً مستقبل البلاد بأكملها، خاصة وأن النظام السابق عمل في الماضي على دق الأسافين بين مكونات الشعب الليبي كي يسهل عليه حكمه على مبدأ فرق تسد. إن ليبيا الجديد بحاجة إلى مداواة جراحها الثخينة لا إلى التنازع والثأر والانتقام الوحشي.
وإذا كان للسوريين أن يرسموا مستقبلاً مشرقاً لبلدهم، فعليهم أيضاً الابتعاد عن سياسة تصفية الثارات مع الاعتراف أيضاً أنهم عانوا الأمرين من جور النظام على كل الصعد.
حري بالعراقيين والليبيين والسوريين أن يدرسوا جيداً تجربة أميركا اللاتينية وجنوب أفريقيا في الانتقال من الديكتاتورية إلى الديمقراطية بأقل الخسائر، خاصة وأن الديمقراطية لا تعرف الانتقام، فالانتقام هو أكبر أعداء الديموقراطية ولا يمكن أن يكون أداة من أدوات الوصول إليها.
لقد مرت بعض دول أميركا اللاتينية بحقبة فاشية لا تقل بشاعة عن الديكتاتوريات العربية، لكنها استطاعت تخطيها بحكمة نادرة، كما يجادل الكاتب والباحث جميل مطر. ويذكر في هذا السياق "طبيبة الأطفال التشيلية واسمها ميشيل باشيليت التي تعرضت للتعذيب في سجون الحكام العسكر وهي ابنة ضابط مات تحت التعذيب في السجن حين كانت في العشرينات من عمرها. لكن بدلاً من الانتقام من الجلادين، أصرت على أن تتولى منصب وزيرة الدفاع بعد سقوط الفاشية، أي المنصب الذي يراقب وينظم شؤون العسكريين لتخرج منه إلى منصب رئيسة الجمهورية. لقد ذهب ثوار تشيلي إلى أبعد من ذلك عندما سمحوا للديكتاتور "الاستمرار في منصبه قائداً عاماً للقوات المسلحة لبضع سنوات بعد إعلان سقوط النظام العسكري، ولكن بعد سحب كافة سلطاته وامتيازاته". لم يحاولوا قتله ولا الثأر منه. وقد شكل ذلك تجاوز أكبر عقبة على طريق الديموقراطية ألا وهو الانتقام، مع العلم أن البلاد عانت كثيراً من أساليب حكم الدكتاتور العسكري الذي حكم تشيلي بالحديد والنار واكتوى من أعماله الوحشية الألوف.
إن"نزع روح الانتقام من الدعوة إلى العدالة، وخضوع كافة قوى المجتمع للقانون والقيادة السياسية المنتخبة مبادئ عالمية لا يمكن اجتزاؤها أو التغاضي عن بعضها بحجة خصوصية الثقافة أو الدين أو الأمية أو التقاليد"، يضيف مطر محقاً. لقد قال السير فرانسيس بيكون يوماً: "عندما تنتقم تثبت أنك مثل عدوك، لكن عندما تتجاهل تثبت أنك الأفضل". ويقول آخر:" أنت لا تتقدم للأمام عندما تنتقم". وهناك مثل ألماني يقول: "الانتقام يحوّل الحق البسيط الى خطأ كبير". وذهب أوستن أومالي أبعد من ذلك عندما قال:"الانتقام هو أن تعض كلباً لأنه عضك". كم كان دوج هورتون مصيباً عندما كتب:" في سعيك للانتقام أحفر قبرين... أحدهم لنفسك"!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق