صدق من أطلق على العرب صفة «الظاهرة الصوتية» لأن كل الدلائل والوقائع والتجارب تجمع على أنهم يركزون على الشعارات الكبرى والكلمات الطنانة الرنانة ويستخدمون دائماً أفعال التفضيل وتضخيم الأمور والصفات للأحداث والأشخاص والمؤسسات ثم سرعان ما يصابون بخيبات الأمل عند انكشاف الحقيقة وانحسار الأوهام وملامسة لحظة الواقع.
والأهم من ذلك أن هذه «الظاهرة الصوتية» «فرّخت» ظواهر أخرى أشد منها خطورة وضرراً وهي الهروب من تسمية الأشياء بأسمائها وإطلاق صفات أو أسماء مغايرة لها ومناقضة لمعانيها، إما لتبرير الهروب من استحقاقاتها أو للتضليل والتخفيف من أهميتها وإخفاء سلبياتها أو لتضخيم معانيها وأبعادها لغاية في نفس يعقوب!
وأدى هذا السلوك اللاعقلاني وغير الواقعي الى بلبلة في صفوف الجماهير وضياع في معظم الحالات عند مواجهة موقف ما أو انتظار حدث مهم أو وقع استحقاق غير محسوب العواقب والنتائج والآثار.
والأمثلة على ذلك كثيرة ومتعددة مع ما حملته من آلام وخيبات أمل على مدى العقود والسنين، فهزيمة فلسطين عام 1948 سميت نكبة وهي صفة تمثل بعض الواقع، لكن مطلقيها أرادوا الهروب الى الأمام لتلافي مواجهة ما تعنيه هزيمة العرب من المحيط الى الخليج بجيوشهم وشعوبهم في وجه شذاذ آفاق قدموا من دول بعيدة لاحتلال وطن غالٍ، وكانت كل الدلائل تجمع على أن الواقعة ستقع وأن المؤامرة ستكتمل فصولها من دون استعداد لها وحشد للطاقات ولا إعداد لما استطاع العرب من قوة.
وتوالت الهزائم وتواصلت المؤامرات وتوالت معها مسيرة إطلاق الصفات الوهمية للأحداث وغرق العرب في متاهات التوصيفات والاتهامات المتبادلة حول الوطنية والتقدمية والرجعية والاشتراكية والقومية لتنقلب الآية بعد زمن ليصبح الرجعي تقدمياً والإشتراكي رأسمالياً والوطني خائناً والقومي معادياً للوحدة والتضامن ولكل ما هو عربي.
ووصلت الخطايا إلى ذروتها في حزيران (يونيو) 1967 لإخفاء آثام الهزيمة المدوية التي لحقت بالعرب على يد المكر الصهيوني ولتجنب المحاسبة عن الأخطاء والإهمال والتقصير وعدم الاستعداد الحقيقي لمواجهة العدو رغم كل ما أتيح من إمكانات وما حشد من معنويات ومشاعر وطنية صادقة وبلمسة ساحر تحولت الهزيمة إلى مجرد «نكسة» كتسمية استخدمت في الإعلام وصارت عرفاً متداولاً حتى يومنا هذا.
حتى انتصار حرب أكتوبر 1973 كان يمكن أن يحافظ العرب على شرف الكلمة وكل مقومات النصر الحقيقي نظراً للبطولات التي تميز بها الجندي العربي والتضحيات التي قدمها بعد أن رد الاعتبار لسمعته وشرف جيوشه وشعبه وحطم أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر ومزاعم تفوق الجندي الإسرائيلي علماً وتقدماً وشجاعة.
إلا إن نقطة النور المضيئة في تاريخ العرب الحديث لوثتها أخطاء مركبة أدت إلى ما جرى في ما سمي «الدفرسوار» عبر قناة السويس ودرجنا على تسميتها بالثغرة للتخفيف من هول نتائجها ووقعها على قلوبنا مع أنها كانت تمثل انحرافاً عن مسيرة النصر وإحباطاً لأهداف كانت ستغير مجرى الأحداث في المنطقة وترسم عبرها مساراً جديداً ينهي أسطورة إسرائيل ويفرض حلاً عادلاً لقضية الشرق الأوسط ويحمل تباشير السلام والاستقرار.
ولم يقتصر الأمر على تسمية الأشياء بغير أسمائها بل تعداه الى كل مفصل من الحياة اليومية للعرب وطاول كل حدث وتغيير بحيث صار كل شعار يحمل حقيقة معاكسة للمقصود بإطلاقه، فالوفاق تحول الى شقاق والوحدة الى انفصال والتضامن يعني التنابذ والإصلاح يصبح بسحر ساحر إمعاناً في الفساد والإفساد والنزاهة تعني الغش والشفافية الضبابية والصدقية كذب والموضوعية تدجيل والمعارضة مطامع والعدالة ظلم والحكم استئثار والمساواة تفرقة وحقوق الإنسان انتهاك ومحاربة العنصرية في العالم تتحول الى إمعان في العنصرية في الداخل وعلى مستوى الوطن والأمة.
حتى في الدين تعددت التسميات والتوصيفات وصار العرب يستخدمون الاتهامات التي يرددها الآخرون ضد الإسلام ويطلقون على الإسلامي لقب «إرهابي» من دون تفريق بين الأصولي والسلفي والمتدين والمتطرف والمتشدد والإرهابي والتكفيري، مع أن من يمعن في الواقع يجد فروقاً كبيرة واختلافات شاسعة بين من يتمسك بالأصول ويدعو إلى السلف الصالح وبين من يستخدم العنف ويكّفر الناس. لكن التضليل الإعلامي وتيارات «الإسلاموفوبيا» أعلنت الحرب على الإسلام لتشويه صورته فاختلط الحابل بالنابل ووضع الجميع في سلة واحدة توجه إليها الاتهامات الظالمة عبر الإعلام الأجنبي ثم عبر بعض الإعلام العربي الذي صار يردد كالببغاء كل ما يقال من دون تمحيص ولا تفريق عن علم أو عن غير علم وفي الحالتين المصيبة أعظم.
وحتى في حياتنا اليومية درج الإعلام على إطلاق الصفات والتسميات المضخمة التي لا تمت الى الواقع بصلة، فاللص صار وجيهاً وكل من يملك المال صار نجم المجتمع من دون أن يسأل من أين له هذا وأي كاتب له قدرة على بسط نفوذه في مجال العلاقات العامة يمكن أن يتحول بين ليلة وضحاها إلى مبدع كبير، وأي مذيع مبتدئ أو مذيعة تكشف عن «مواهبها» الجسدية تتحول بقدرة قادر في الإعلام والمجتمع إلى الإعلامية المبدعة مع أنها لا تكاد «تفك الحرف» كما يقول المثل.
هذه الآفات التي تعاني منها مجتمعاتنا قلبت الموازين وروّجت للعملات الرديئة على مختلف الأصعدة وسوّدت صفحات بيضاً وبيضت صفحات سوداً لتنعدم القيم ويشيع التكاذب وتختلط الأمور على المواطن الذي لم يعد أمامه سوى إما ترديد المشاع كما هو حتى ولو لم يصدقه أو الانكفاء والانزواء في دوامة خيبات الأمل.
ولا حل إلا بضرب «الخزعبلات» وتنقية الأجواء وإزالة الأكاذيب في خطابنا السياسي والاجتماعي وتسمية الأشياء بأسمائها، وهنا تكمن البداية، بداية إصلاح كل مفاصل الحياة لأن الاعتراف بالواقع كما هو يشكل الخطوة الأولى في طريق الألف الميل الى الشفاء، ومعرفة حجم كل حدث وشخص وموقف، وهي تمثل قمة الإصلاح والعودة الى طريق الحق وجادة الصواب.
ومن دون هذه الخطوة يبقى كل شيء ناقصاً مع تواصل تبادل الاتهامات في كل شأن من شؤون حياتنا وإلقاء المسؤولية على الآخرين وتبرير القصور باستخدام شماعة الإدمان المعروفة فلا بد من تسمية الأشياء بمسمياتها حتى لا نواصل مسيرة الهروب من مواجهة الواقع: واقع العرب وواقع العالم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق